كريستين حبيب تعاين في «الشرق الأوسط» أزياء صباح في مشغل المصمم الراحل ويليام خوري

في خزانة «الصبوحة»

كريستين حبيب تعاين في «الشرق الأوسط» أزياء صباح في مشغل المصمم الراحل ويليام خوري

بيروت: كريستين حبيب

لم تختبئ صباح داخل الخزانة يوماً. كانت شمساً لا تتوارى حتى في أكثر أيامها ضباباً. عاشت حكايات حبها وزيجاتها الكثيرة أمام الملأ. تعاملت مع هزائمها الإنسانية كدروس في الانتصار بعد الانكسار، وجاهرت بأن العمر رقم ووهم.

يخبر رفيق آخر عقدين من حياتها جوزيف غريب «الشرق الأوسط» أنها كانت تخصص خزانةً بكاملها للإكسسوار، أما المجوهرات والذهب فكانت توزعها على الناس من حولها. ليس ثميناً بالنسبة إليها ما هو باهظ السعر، الثمين هو ما يجعلها سعيدة. وجدت «الصبوحة» جزءاً أساسياً من سعادتها في الفن غناءً وتمثيلاً واستعراضاً، وكمّل شغفُها بالموضة سعادتَها تلك.

في مصمم الأزياء ويليام خوري، عثرت صباح على الأنامل التي حاكت لها فساتين الأحلام المطرزة بألوان الفرح وتعاويذ النجاح. معه وجدت فناناً يحفظ مقاسات روحها وليس جسمها فحسب. منذ تعارفا في مطلع السبعينات، ارتبط اسم خوري بصباح.

صباح ومصمّم الأزياء اللبناني وليام خوري

لا تكشف ابنة أخيه مادونا خوري سراً، عندما تقول في حديثها مع «الشرق الأوسط» إن عمها ويليام لطالما اعتبر صباح ملهمته. وتضيف: «كان يقول لي إن كتفها غير شكل، طلتها، وقفتها، كيف تعرض الفستان. كانت تملك مقومات عارضة أزياء ولا تهمل جسدها ورشاقتها. لكنه قبل أي شيء، كان يعشق روحها الحلوة وخفة دمها».

على مدى أربعة عقود، صمم خوري لصباح أكثر من 400 قطعة من الملابس، لم يبق منها سوى 40 فستاناً بعد أن احترق معظمها خلال الحرب اللبنانية جراء قذيفة أصابت المحلات.

«هذا الفستان الأخضر صمم خصيصاً لعودة الصبوحة إلى مهرجانات بعلبك، وذاك ارتدته في فيلم «ليلة بكى فيها القمر»، أما الأصفر هذا فمن مسرحية «وادي شمسين»، تعدد مادونا القطع المتبقية. تخشى، وهي إحدى ورثة عمها، من أن تغرق تلك التحف في النسيان فتشوهها علامات الزمن. تكشف أن ويليام خوري، وحتى آخر أيامه على هذه الأرض، ظل يحلم بإقامة متحف لفساتين صباح.

غادرنا بعد وفاتها بسنة تقريباً. تدهورت صحته كثيراً بعد رحيلها، وكأن زمنه الجميل ذهب معها»، تخبر خوري بغصة. ثم تلمع عيناها فخراً عندما تنظر إلى الفساتين المعلقة التي زينت قوام الأسطورة. تقول: «لا أعرف أين أبدأ، لكني راغبة بإنجاز شيء ما من أجل الحفاظ على إرث عمي. لا مشروع واضحاً، لكن الاحتمالات كثيرة، كمتحف ربما، أو معارض متنقلة، أو حتى مزاد علني يخدم قضية إنسانية».

وبانتظار أن تتبلور الفكرة أو أن تجد من يمولها، تسترجع مادونا ذكرياتها الأولى مع صباح. «كانت حين تصل إلى شارع فرن الشباك حيث مشغل عمي ومحلاته، يخرج الجميع من محالهم وبيوتهم لرؤيتها. أذكر كيف كنت طفلةً، أختبئ في غرفة القياس لأراقبها من بعيد وهي تدخل المحل. لخطوتها وقع آسر ما زال يتردد في أذني حتى الآن. كانت لصباح رهبتها مع أنها غاية في اللطف، إلى درجة أن خياطي المصنع كانوا يصلون ليلهم بنهارهم لينجزوا ملابسها لشدة ولعهم بشخصيتها الطيبة».

لم توخز إبر ويليام خوري ودبابيسه صباح يوماً، فعلاقتهما كانت صلبة وقائمة على الصداقة والتبادل الروحي. عن تلك العلاقة تقول مادونا: «كان صندوق أسرارها وهي كانت ترتاح إليه. كثيرون غيره ألبسوها وهو لم ينزعج من ذلك، لكن أحداً لم تستمر علاقته المهنية والشخصية بها 43 سنة».

المصمم الذي كان من رواد المجال في لبنان، والذي ارتدت تصاميمه أميرات العالم العربي ونجماته كأم كلثوم، وسميرة توفيق، وماجدة الرومي، وجورجينا رزق، أخذ صباح إلى الجرأة. كان أول من ألبسها السروال القصير (الشورت)، كما أدخل إلى أحد فساتينها مصابيح كهربائية صغيرة لتغني «نورتونا يا حبايب طفوا نور الكهربا». لكن تلك الجرأة لم تختلط أبداً بالابتذال ولا بالوقاحة. سبقت «الصبوحة» عصرها وارتدت ما لم تجرؤ الأخريات على ارتدائه، لكنها حافظت على صورتها اللائقة والراقية.

تلك الجرأة أخذها إليها كذلك مزين الشعر وخبير التجميل جوزيف غريب. من دون أن يزعزع صورتها الممهورة بشعرها الأشقر الكثيف، فاجأ غريب الصبوحة وجمهورها بتسريحات غير مألوفة. يقول: «كان الشعر المالس خطوة جريئة جداً نظراً إلى اللوك الذي اشتهرت به. لاحقاً أدخلت تحولات كثيرة إلى تسريحاتها، مثل الرفع والكعكة وإضافةً الإكسسوارات. وهي لم تكن تعترض، لكنها كانت حريصة على عدم تغيير اللون الأشقر الذي شكل جزءاً أساسياً من هويتها. وأنا احترمت ذلك وكنت مقتنعاً بالأمر».

ليست علاقة غريب بصباح عادية. سكنته شمسها منذ كان طفلاً. في السابعة من عمره، استقل باصاً متجهاً إلى بيروت ليحضر إحدى حفلاتها. لم يردعه عقاب والده من أن يعيد الكرة. «لاحقاً ذهبت لزيارتها بما أن علاقة زمالة كانت تربط شقيقينا»، يسرد مسار علاقته بها. ويضيف: «كنت في الـ12 من عمري يوم شاهدت مسرحية «شهر العسل». أما «وادي شمسين» فلم أفوت عرضاً منها، كنت أنهي فروضي المدرسية وأتوجه إلى المسرح».

ألِفت صباح وجه جوزيف الطفل وصارت تدعوه إلى الكواليس، قبل أن توسع الحرب المسافات بينهما. في الأثناء، دخل مجال تزيين الشعر والماكياج حالماً بأنه في يوم من الأيام، سيوقع إطلالتها بيديه. ثم أتى ذلك اليوم من عام 1993 حاملاً لغريب بداية تعاون مهني مع «الصبوحة»، وبذور صداقة مميزة استمرت حتى آخر أنفاسها في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014.

«نجحت في أول امتحان، فاعتمدتني مزينها الخاص. جلت مع صباح النجمة حول الكرة الأرضية مرافقاً إياها في حفلاتها ومناسباتها. لكن اللحظات التي أمضيتها مع جانيت فغالي الإنسانة بعيداً عن الأضواء تبقى هي الأثمن. فهمت جانيت الحقيقية قبل أن أفهم صباح، وهذا سر استمرارية علاقتنا»، يقول غريب.

انسكبت صباح خيوط شمس على حياة الأقربين والأبعدين، أما عواصفها فهدأتها وحيدةً. يذكر جوزيف الذي رافق معظم يومياتها كيف «كانت تمضي لحظات حزنها في غرفتها كجانيت فغالي، لتعود وتخرج منها كصباح المشعة. كانت تستقوي على الأسى بصلابتها وإيمانها، فتتخطاه خلال ساعات. ربما سكن الحزن قلبها طوال عمرها، لا سيما وأن العذابات كانت كثيرة في حياتها، إلا أنها لم تظهر انكسارها للناس أبداً ولطالما كررت عبارة أن حزنها لها هي وليس لأي شخص آخر».

لا ينسى غريب ذاك الوجه الضاحك حتى على فراش الموت، ويقول: «بعد رحلتي مع صباح ما عاد يغريني الكثير. ما زلت كل ليلة أتفرج على صورها وأسمع أغانيها وأشاهد أفلامها ومسرحياتها». أشرقت الصبوحة بأناقتها وصوتها ومحبتها على حياة كثيرين. تعالت على الأذى وكل أشكال الشر. أحبت عمرها والحاجات وكل الناس، ولم تأخذ معها سوى الساعات الجميلة.