المايسترو يرحل بوقار
رشيد درباس
رحل مايسترو الطائف وفي نفسه غصة أورثه إياها نشوز الآلاتية ورداءة الآلات.
في عز صعود الحريرية، ارتقى سدةَ معارضة رفيعة المستوى السياسي والفكري والإخلاقي، تشكلت داخل البرلمان اللبناني من كتلة برلمانية ضمت إلى السيد حسين الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي والنواب المرحوم نسيب لحود ومحمد يوسف بيضون وبطرس حرب وأخذت على عاتقها ممارسة دور الاعتراض على نهج الحكومة بإبداء الآراء الرصينة والمدروسة من غير أن يكون في مواقفها تسديد حساب لأحد أو نزعة انتقام أو رغبة في استلام الحكم.
وكان الرئيس الحريري رحمه الله ينظر إلى تلك الكتلة بعين التقدير ويقيم وزنًا كبيرًا لآرائها، فنشأت بذلك علاقة جدية بين حكومة طموحة ومعارضة متحفظة من ضمن معادلة لم يخرج خطابها يومًا عن الأدب الجم واللغة الراقية.
ولقد شبهت تلك المجموعة مرةً، بأنها أقرب إلى مجلس اللوردات نظرًا لما تمتع به كل فرد فيها من عفة واستقامة وشجاعة قولٍ ورجاحة رأي.
هذا يذكرنا أيضاً بحسن الرفاعي وإدمون رزق متعهما الله بالصحة وكذلك نصري معلوف وسليم حيدر ولويس ابو شرف والشيخ نديم الجسر وبهيج تقي الدين وادوار حنين وسواهم، ولا سيما جان عبيد رحمهم الله.
رحل السيد حسين بعد أن حاول ديمقراطية، ثم آثر الاعتكاف في تاريخه واحترامه لنفسه راضيًا مرضيًّا محاطا بما يليق به من تقدير.
نحن لا نفقد رجالاً، بل نمطًا من التعاطي لم تزل بعض آثاره قائمة ولو كأطلال ذكرى، فما زال الحنين يشدنا إلى مشادات الشهيد كمال جنبلاط مع الرئيس عبدالله اليافي وطرائف صائب بك مع رشيد أفندي والاشتباك الدائم بين العميد ريمون والشيخ بيار بلغة عربية أقرب إلى الفرنسية لولا لكنة مصرية بقيت على لسانيهما بحكم النشأة.
انتخب الرئيس حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب في زمن عصيب وحرج، وكان من صميم نفرة الإمام السيد موسى فوجدناه يتجول بين المتاريس السياسية دون أن يفقد هدوءه ورباطة جأشه، وطبعاً دون أن يفقد الأمل إلى أن حق على الحرب أن تضع أوزارها، فكان مؤتمر الطائف برئاسته حيث أقام مع الحروف وذلل الصيغ وعالج نفورها فجعلها سائغة في مذاق المتحاربين بعد أن أضفى حلاوته عليها البطريرك صفير في ظل رعاية عربية ودولية، كان من شأنها أن تستعيد لبنان من شراسة المتاريس إلى حضارة رسالته وفكرة تكوينه الأولى.
رحل السيد حسين الحسيني الذي رافقته السيادة إلى حفرته فكانت شاهداً من رخام أصيل مقتطعاً من صوان جبل واحد، فلم يذهب حاملاً يأساً تمليه الظروف الحالية ولكنه بقي على أمله قبل أن يكون رئيساً “للأمل” وبعد أن آثر العودة إلى سدة وطنية لا تلوثها السياسية.
عندما تكتمل كتابة تاريخ لبنان فإن في خزانة السيد حسين وثائق حفظها من التلوث ستكون لها بصمات وعبر.
أجمل ما في الرئيس الراحل أنه كان يحيط نفسه بأرقى العقول وأرشق الأقلام وأنه لم يتزعزع يوماً عن إيمانه أن بداية الإصلاح تبدأ بإصلاح السلطة القضائية.
وأجمل ما في الطائف “السُّني” أن راعيه كان سيداً شيعياً .